ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي باستحضار هذه الآية الّتي بيّنت لنا أن شرطًا حدّده الله سبحانه وتعالى لبلوغ الجنّة، حين قال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} والّتي أشارت إلى أنّ من يريد أن يصل إلى الجنّة لا بدّ أن يمرّ بامتحانات يظهر من خلالها ثباته على الطّريق الّذي رسمها الله له مهما عصفت به التّحديات والشّدائد والصّعوبات. فالجنّة لن تكون دائمًا معبّدة بالورود والرّياحين بل إنّ دون الوصول إليها أشواك وعوائق، وهذا ما أشار إليه الحديث: من سأل الله الجنّة ولم يصبر على الشّدائد فقد استهزأ بنفسه وهذا ما قاله أمير المؤمنين (ع) لأولئك الّذين كانوا يعتقدون أنّه بقليل من العمل يصلون إلى الجنّة: أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعزّ أوليائه عنده؟ هيهات لا يخدع الله عن جنّته، ولا تنال مرضاته إلّا بطاعته.
لذلك، أيّها الأحبّة، علينا أن نعد أنفسنا لأن نصبر ونثبت على إيماننا ومبادئنا ومواقفنا العزيزة مهما اشتدّت علينا الأزمات وعصفت بنا التّحديات فبذلك نبلغ الجنّة... وبذلك يتحقّق وعد الله بالنّصر وسنكون أكثر قدرة على مواجهة التّحديات.
والبداية من هذا البلد الّذي لا يزال العدوّ يحتلّ أرضه ويعتدي على شعبه ومقدّراته ويتوغّل في أرضه برًا ويخترق سماءه جوًّا ويشنّ الغارات على البلدات الآهلة كما شهدنا أخيرًا في الغارات العنيفة الّتي استهدفت عددًا من المناطق الجنوبيّة وفي عمليّات الاغتيال الّتي طاولت مواطنين لبنانيّين ووصلت إلى الأطفال باستشهاد الطّفل الموهوب عبّاس مرعي عوالي بطل العالم في الحساب الذّهني أمام منزله وجرح والده. يجري كلّ ذلك من دون أن نسمع أي إدانة تبرد قلوب كل من يعانون من آثار هذا العدوان وتبلسم شيئًا من جراحهم إن من الدّاخل اللّبناني أو ممّن هم معنيون بضمان وقف إطلاق النّار أو الإشراف عليه أو من الدّول الّتي تبدي حرصها على لبنان كأن الّذي يجري لا يمسّ أمن هذا الوطن ولا سيادته ولا حياة أبنائه ولا مقدّراته.
في ظلّ هذا المشهد لا يزال لبنان تحت وطأة الضّغوط الّتي تمارس عليه والّتي جاء التّعبير عنها من خلال الرّد الأميركيّ الأخير الّذي رفض الورقة اللّبنانيّة والّذي جعل بند نزع سلاح المقاومة شرطًا ومدخلًا لأيّ مطالب لبنانيّة وهو في ذلك يتعامل مع لبنان كأنّه لا يطبّق ما عليه ومن دون ان يأخذ في الاعتبار مطالبه المحقّة الّتي جاءت في الورقة اللّبنانيّة وفيها أن يوقف العدو الصّهيونيّ اعتداءاته أوّلًا ليتمّ الحوار بعد ذلك حول كلّ القضايا للوصول إلى الحلول الّتي تأخذ في الاعتبار أمن لبنان وسلامة أرضه وبناء دولته القويّة، وقد أرفق هذا الرّد الأميركي بمزيد من الضّغوط الأمنية والسّياسيّة والتّهديد بمنع الإعمار أو أي حلّ لأزمته الاقتصاديّة إن هو لم ينفّذ ما يراد منه ومع الأسف لقيت هذه المطالب صداها لدى عدد من الجهات السّياسيّة والإعلاميّة حتّى أنّها شاركت في عمليّة التّهويل هذه والضّغط على الدّولة وعلى اللّبنانيّين.
في ظلّ هذا الواقع ورغم كلّ الّذي جرى ويجري جاء قرار مجلس الوزراء باقراره بند حصريّة السّلاح بيد الدّولة وسحب أي سلاح بما فيه سلاح المقاومة من الأراضي اللّبنانية وأناط بالجيش اللّبناني تنفيذ هذا القرار ضمن المهلة الّتي حدّدها وقد جاء هذا القرار رغم الاعتراض الّذي حصل داخل مجلس الوزراء وأدّى لانسحاب بعض الوزراء أو الّذي من خارجه ممّن كانوا يريدون أن يأتي هذا القرار بعد ضمان إيقاف العدو لاعتداءاته وانسحابه من الأرض وفي اطار استراتيجيّة دفاعيّة يتوافق عليها اللّبنانيون تضمن حماية لبنان من هذه الاعتداءات الّتي تحصل عليه.
إنّنا أمام ما جرى لن نغفل حجم الضّغوط الّتي مورست على الحكومة اللّبنانيّة لكنّنا كنّا نريد لها قبل أن تأخذ هذا القرار أن تجيب عن كلّ الأسئلة المطروحة عليها كحكومة هي معنيّة بأمن كلّ اللّبنانيّين وبمقدّراتهم حول الضّمانة الّتي يمتلكونها لإرغام هذا العدوّ على إيقاف اعتداءاته وانسحابه من المواقع الّتي يحتلّها واستعادة الأسرى اللّبنانيّين، وأنّه بغياب هذه الضّمانة لا ينبغي أن يفرّط لبنان بأيّ موقع من مواقع القوّة الّتي يمتلكها...
والّذي يأتي في وقت يتحدّث وزير ماليّة العدوّ وبلسان واضح وجليّ أنّ كيانه ليس بوارد الانسحاب من النّقاط الخمس الّتي يحتلّها ومغادرة الأراضي اللّبنانيّة والسّؤال الآخر الّذي كنّا نريد للحكومة اللّبنانيّة أن تجيب عنه قبل هذا القرار الكيفيّة الّتي سيتم بها تطبيق هذا القرار إن هو نفّذ لأنّنا نخشى أن تؤدّي إلى صدام داخلي يدفع لبنان إلى الفوضى، وإن كنّا على ثقة بأنّ الصّدام لن يحصل بعد امتزاج دماء الجيش اللّبناني والمقاومة في الدّفاع عن لبنان في مواجهة العدوّ الصّهيونيّ أو الإرهاب.
ومن هنا فإنّنا ندعو الحكومة اللّبنانيّة في جلساتها إلى تصويب هذا القرار بحيث تأخذ في الاعتبار هواجس اللّبنانيّين ولا سيما الّذين يعانون من احتلال هذا العدوّ ويقدّم الأجوبة الحاسمة لهم.
أمّا على الصّعيد الدّاخلي، فإنّنا نحذّر من الفتنة الّتي نخشى من أن تطلّ برأسها على اللّبنانيّين بفعل الانقسام الّذي شهدناه بعد قرار الحكومة اللّبنانيّة، والّذي ينعكس على الخطاب السّياسيّ والدّينيّ والشّعبيّ بما يخشى من تداعياته على غير صعيد.
ومن هنا فإنّنا نجدّد دعوتنا إلى الخطاب العقلاني الواعي والابتعاد عن الخطاب المستفزّ الّذي يستثير الغرائز الطّائفيّة والمذهبيّة والسّياسيّة، في مرحلة هي من أصعب المراحل على صعيد هذا الوطن والّتي لن يسلم فيها الضّعفاء الّذين يتفرّقون شيعًا وطوائف ومذاهب ومواقع سياسيّة متناحرة.
وأخيرًا إنّنا نرى خطورة القرار الّذي صدر عن حكومة العدو باجتياح غزة واحتلالها والّذي من الواضح أنّه يهدف إلى تهجير الشّعب الفلسطينيّ منها والّذي سيستكمل في الضّفّة الغربيّة لانهاء القضيّة الفلسطينيّة...
إنّنا في الوقت الّذي نثق بقدرة الشّعب الفلسطينيّ على الصمود في وجه ما يدبّر له نعيد التّأكيد على العالم العربيّ والإسلاميّ إلى القيام بمسؤوليّاته وعدم ترك الشّعب الفلسطينيّ وحيدًا أمام الهجمة الّتي يتعرّض لها ومنع العدوّ من تحقيق أهدافه وهو قادر على القيام بدوره إن توحّدت جهوده وقدراته. إنّ من المؤسف أن لا نرى هذا الصّوت أو يبقى خافتًا فيما ترتفع الأصوات في العالم وهي تنادي بالحريّة للشّعب الفلسطينيّ وايقاف نزيف الدّم والدّمار فيه.