ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الله عندما قال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} والتي جعلها مقياس التعامل بين النّاس عندما قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وهو الّذي دعانا إلى أن نتزوّد منها: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ}. وقد أشار أمير المؤمنين علي (ع) إلى علامات هؤلاء حتّى تميّزهم عن غيرهم فقال: "إن لأهل التّقوى علامات يعرفون بها: صدق الحديث وقلّة الفخر والخيلاء وبذل المعروف وقلّة المباهاة للنّاس وحسن الخلق ممّا يقرب إلى الله عزّ وجلّ". فلنسلك سبيل التّقوى لنبلغ ما وعد بها المتّقون في الدّنيا عندما قال: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}. وبذلك نكون أكثر قدرة على مواجهة التّحديات.
والبداية من غزّة الّتي انتهت فيها المرحلة الأولى من الخطّة الأميركيّة الّتي نفّذت بعد التّوافق عليها وأدّت إلى إيقاف الحرب المجنونة الّتي ذهب ضحيّتها أربعماية ألف شهيد وجريح ومفقود وتدمير أكثر من ثمانين بالمئة من مباني القطاع وبناه التّحتيّة، ورفع الحصار المطبق الّذي منع أهله من الحصول على أبسط مقوّمات العيش من الغذاء والدّواء والماء، وعودة مئات الأسرى الّذين كانوا يقبعون في سجون العدوّ إلى الحريّة.
ونحن في هذا المجال نهنّئ الشّعب الفلسطينيّ على كلّ هذا الإنجاز الّذي لم يكن يتحقّق لولا صمود هذا الشّعب وصبره وتضحياته الجسيمة، والّذي أنهى عذاباته، ونحن بانتظار تنفيذ المراحل القادمة الّتي نريدها أن تلبّي احتياجات الشّعب الفلسطينيّ وأن تؤمّن له ما يستحقّه من الحريّة الكاملة على أرضه وتعزيز مصيره فيها أسوة بكلّ شعوب العالم وإن كنّا لسنا على ثقة بأن هذا الكيان سيقوم بما عليه ويفي بالتزاماته وعهوده ومواثيقه تجاه هذا الشّعب بل سيسعى جاهدًا للتنصّل من أيّ ضغوط الّتي قد تمارس عليه أو عهود التزم بها.
وهنا نعيد التّأكيد على من يريدون السّلام ويرفعون شعاره في هذه الأيّام أن لا سلام ولا أمان إن لم يحصل الشّعب الفلسطينيّ على كامل حقوقه المشروعة.
ولذلك، فإنّنا نجدّد دعوتنا للدّول العربيّة والإسلاميّة إلى الانتباه والحذر وأن تبقى يدها ممدودة لهذا الشّعب لمساعدته على نيل حقوقه، ومنع العدوّ من أن يحقّق أهدافه على حسابه، وهي تملك كلّ العناصر الّتي تمكّنها من الوقوف معه. وأن تتحمّل في الوقت نفسه مسؤوليّتها حيال إعمار غزّة وأن تبادر إلى ذلك بالسّرعة اللّازمة أمام شعب يتحضّر للشتاء وقد دُمّرت بيوته ولم يعد يملك شيئًا يواجه به كلّ هذا الدّمار.
ونحن في الوقت نفسه ندعو كلّ أحرار العالم الّذين خرجوا لنصرة هذا الشّعب إلى أن يتابعوا دورهم وأن لا يكفّوا عن رفع أصواتهم والّتي حالت دون استمرار هذا العدوان وسوف تترك المزيد من الأثر إن هي استمرّت في الضّغط لرفع الظّلم عن هذا الشّعب.
وسنبقى نراهن على الشّعب الفلسطينيّ الّذي أثبت بصموده ومقاومته أنّه شعب مقدام وصابر وجدير بالحياة وبأرضه، ونحن على ثقة بأنّه كما منع العدوّ من تحقيق أهدافه طوال المرحلة السّابقة سيتابع العمل في هذه المرحلة لمنعه من تحقيقها الآن وفي المستقبل.
ونصل إلى لبنان الّذي لا يتوانى العدوّ فيه عن عدوانه من خلال ما نشهده من عمليات القصف والاغتيال الّتي أدّت إلى استشهاد وجرح عدد من المدنيّين والتّدمير لأيّ مظهر من مظاهر الحياة في القرى الحدوديّة وفيما شهدناه أخيرًا من تصعيد غاراته لمنع الإعمار والّتي أدّت لتدمير عدد كبير من الآليات والمواد الّتي تسنخدم للإعمار والّتي هدّد بها أرزاق عدد كبير من اللّبنانيين ومقدّراتهم وقد بات واضحًا أنّه يهدف من وراء ذلك إلى مزيد من الضّغط على الدّولة اللّبنانيّة وعلى الشّعب اللّبنانيّ، حتّى يفرض شروطه على الصّعيد الأمنيّ أو السّياسيّ.
ونحن في الوقت الّذي نرحّب بالاستنفار الحكوميّ إزاء هذا التّصعيد الصّهيوني، وتقديم الحكومة شكوى لمجلس الأمن احتجاجًا على هذا العدوان المتواصل على لبنان، فإنّنا نرى أن هذه الخطوة ينبغي أن تستكمل بخطوات فاعلة على صعيد اللّجنة المكلّفة بالإشراف على وقف إطلاق النّار وعلى الصّعيد الدّبلوماسيّ والسّياسيّ وعلى المنابر الدّوليّة وفي التّواصل مع القوى القادرة على الضّغط على العدوّ لالزامه بوقف اعتداءاته بعدما وفى لبنان ومعه المقاومة بما عليه، وفي المقابل نعيد دعوة المسؤولين إلى متابعة حقيقيّة لملفّ الإعمار الّذي هو حقّ للمواطنين على الدّولة الّتي يتعيّن عليها أن تحتضنهم، ونحن في الوقت الّذي نعي عدم القدرة الكاملة للدولة على المعالجة الجذريّة لهذا الملف فإنّ هذا لا يعفيها من العمل للوفاء بما التزمت به تجاه مواطنيها والّذي به تنال ثقة شعبها الّذي يتطلّع إلى دولة تحميه وتحرص عليه وتقوم بمسؤوليّاتها تجاهه...
فيما نعيد مجدّدًا التّأكيد على ضرورة تعزيز الوحدة الدّاخليّة والكفّ عن كلّ ما يعكّر صفو هذه الوحدة ويجعل البلد رهينة الأزمات في هذه المرحلة الخطيرة الّتي نواجه فيها التّحدي من العدوّ بعدما كثر الحديث عن أنّه سيبادر إلى مزيد من الضّغط على هذا البلد بعد إيقاف الحرب على غزّة... لقد آن للّبنانيّين أن يعوا أنّ لا خيار لهم إلّا أن يتوحّدوا طوائف ومذاهب ومواقع سياسيّة وبدونه لا قيامة للبلد ولا نهوض فيه وسيكون في مهبّ رياح الآخرين وأسيرًا لما يخطّط له على صعيد هذا العالم.