ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين ومما جاء في خطبته السياسية:
أوصيكم وأوصي نفسي بوصيّة رسول الله (ص) عندما جاء إليه رجل وقال له: يا رسول الله أوصني، قال له النّبي (ص): هل أنت مستوصٍ إذا أنا أوصيتك؟ قال بلى يا رسول الله، قال له: "أوصيك إذا أنت هممت بأمرٍ فتدبّر عاقبته فإن يكُ رشدًا فامضه وإن يك غيًا فانتهِ عنه".
إنّنا أحوج أيّها الأحبّة أن نأخذ بهذه الوصيّة؛ أن نأخذ بها قبل كل كلمة نطلقها أو قرار أو موقف نتّخذه سواءً ما يتعلّق بحياتنا أو بالآخرين... أن لا نقدم عليه إلّا بعد أن ندرس تبعاته وتداعياته وما قد يؤدّي إليه، إن على صعيد الدّنيا أو على صعيد الآخرة. فلا نقدم إلّا بما فيه الرّشد والخير والصلاح ونبتعد عن كلّ الغي والضّلال والانحراف وما يسيء إلينا وللآخر. وبذلك نكون أكثر حكمةً ووعيًا ومسؤوليّةً وقدرةً على مواجهة التّحديات...
والبداية من لبنان حيث يستمرّ العدو الصّهيونيّ بممارساته العدوانيّة بحق هذا البلد... عبر التوغّلات الّتي يقوم بها في قرى حافّة الشّريط الحدوديّ واستهداف أيّ مظهر من مظاهر الحياة فيها لمنع الأهالي من العودة أو الاستقرار فيها أو عبر الاغتيالات للمواطنين وهم في قراهم أو في أثناء تنقّلهم أو المسيّرات التّجسسيّة الّتي تجول المناطق اللّبنانيّة والّتي تصل إلى بيروت وضواحيها أو في الغارات العنيفة الّتي شهدناها بالأمس وطاولت عددًا من القرى في الجنوب والبقاع الغربي والّتي يهدف العدو من خلالها إلى استمرار الضّغط على اللّبنانيين لدفعهم إلى التّسليم لمطالب يريدها من هذا البلد.
يحصل كلّ هذا رغم الالتزام التّام من قبل الدّولة اللّبنانيّة ومن ورائها المقاومة بقرار وقف إطلاق النّار ووفائها بما التزمت به بموجب هذا القرار، من دون قيام الكيان الصّهيونيّ بالالتزام بما عليه...
في هذا الوقت، تأتي زيارة المبعوث الأميركيّ الّذي كانت دولته قد أخذت على عاتقها ضمان تنفيذ قرار وقف اطلاق النّار، فهو بدلًا من أن يلزم العدو بالوفاء بما التزمت به ادارته بتطبيق هذا القرار عاد ليؤكّد على الدّولة اللّبنانيّة مطالب دولته الّتي تركّز أوّلًا على حفظ أمن الكيان الصّهيونيّ ومصالحه من دون إظهار أيّ اهتمام بالمطالب اللّبنانيّة، متنصّلًا من تقديم أي ضمانة للدّولة اللّبنانيّة لتنفيذها سواء بالضّغط على العدو لإيقاف عدوانه أو للانسحاب من الأراضي الّتي احتلّها وحتّى لو التزمت الحكومة اللّبنانيّة بكلّ الشّروط التّعجيزيّة الّتي تتّصل بأمن الكيان، وهو بذلك تعامل ويتعامل مع لبنان وكأنّه بلد مهزوم ليس أمامه إلّا الاستسلام لكلّ املاءات العدو وشروطه، ما يبقي هذا البلد في دائرة اعتداءات العدوّ الصّهيونيّ الّتي لا يبدو أنّها ستتوقّف والضّغوط الّتي تمارس عليه.
إنّنا أمام ما جرى ويجري نجدّد تأكيدنا على أهميّة الموقف اللّبناني الرّسمي الموحّد الّذي يأخذ بعين الاعتبار سيادة هذا البلد وقوّته ويراعي في الوقت نفسه حجم التّحديات والمخاطر الّتي تواجهه، وندعو مجدّدًا إلى التّمسّك به... والّذي يساهم استمراره والثّبات عليه والتفاف اللّبنانيين حوله في تحقيق ما يصبو إليه اللّبنانيّون من أمن واستقرار وسيادتهم على أرضهم.
إنّ من المؤسف أنّنا ما زلنا نشهد أصواتًا في هذا البلد تتبنّى مطالب هذا العدو من دون أن تتّخذ أي موقف تجاه انتهاكه لسيادته وأمنه واستقراره، ومن دون أن تتحسّب لأطماع هذا العدو في أرضه وثرواته...
ومن هنا فإنّنا نجدّد دعوتنا للّبنانيّين إلى أن يكونوا أكثر حرصًا في هذه المرحلة على وحدتهم وتماسكهم وثباتهم واستنفار عناصر قوّتهم ليواجهوا كل ما يخطّط ويرسم لبلدهم وللمنطقة من مشاريع، حيث لا يمكن أن يواجه ذلك بالتّرهّل والانقسام الّذي نشهده بل قد يكون التّرهّل أو الانقسام هو البيئة المؤاتية لسيطرة العدو، وهنا ننوّه بكلّ الجهود الّتي تبذل لردم الهوة بين اللّبنانييّن وتفادي أي انقسام يحصل داخل هذا البلد بفعل الخلاف حول الخيارات اللّبنانيّة في مواجهة التّحديات، وهنا نجدّد دعوتنا إلى الوقوف في وجه أي خطاب استفزازي يثير الفتنة الطّائفيّة والمذهبيّة أو السّياسيّة أو يؤجّجها.
ونبقى في الدّاخل لندعو الحكومة اللّبنانيّة الّتي جدّد المجلس النّيابي الثّقة بها للقيام بمسؤوليّتها الّتي أخذتها على عاتقها تجاه اللّبنانيّين على الصّعيد المعيشي والحياتي أو على صعيد اعمار ما هدمه الكيان الصّهيونيّ، أو باستعادة المودعين لأموالهم وتعزيز لغة المحاسبة. وهناك الكثير ممّا على الدّولة القيام به، وهنا ننوّه بكل الخطوات الّتي أخذت على هذا الصّعيد، والّتي جاءت أخيرًا من المجلس النّيابي برفع الحصانة عن الوزراء السّابقين والّتي تسمح بمساءلتهم عمّا جرى ارتكابه في المواقع الّتي كانوا يتولّونها.
إنّنا نرى في ذلك خطوة مهمّة على طريق الاصلاح، وننتظر أن تتواصل هذه الخطوات على مختلف الصّعد على أن تكون بالجديّة المطلوبة وأن لا يكون في ذلك أبناء ستّ وأبناء جارية والّتي إن حصلت ستسمح بمعالجة ظاهرة الفساد وتؤدّي إلى استعادة اللّبنانيّين لأموالهم الّتي أكلها الاختلاس والفساد واساءة استخدام السّلطة، وتحقيق آمالهم ببناء دولة العدالة والقانون دولة خالية من الفساد والهدر.
وأخيرًا، إنّنا نتطلّع إلى الأمّة كلّها ليكون لها موقفها القويّ والحازم حيال ما يحصل في غزّة من تجويع أقر المسؤولون في الأمم المتّحدة بأنّه لا سابقة له في هذا العصر، والمجازر الّتي لا يزال يرتكبها العدوّ والتّدمير الممنهج لكلّ مظاهر الحياة فيها...
إنّنا نريد للدّول العربيّة والاسلاميّة أن تكون على مستوى المسؤوليّة العربيّة والإسلاميّة والإنسانيّة بأن توحّد جهودها للضّغط على هذا العدوّ والدّاعمين له، لإيقاف نزيف الدّم والدّمار والجوع، ومنعه من الاستمرار بمشروعه الرّامي إلى تهجير أهالي غزّة أو إبادة أهلها والّذي يستكمله في الضّفّة الغربيّة ولا سيما بعد أخذه القرار بضمّها لكيانه تمهيدًا لإنهاء القضيّة الفلسطينيّة وهو ما يردّده رئيس وزراء العدو من أنّهم أمام فرصة لا تأتيهم إلّا كلّ مئة عام. فيما ندعو أحرار العالم وكلّ الدّول الّتي لا تزال تحترم حقوق الإنسان وتأخذه بالحسبان إلى رفع الصّوت عاليًا واتّخاذ مواقف حاسمة في مواجهة هذا الكيان لإيقاف جريمة العصر هذه وعدم الاكتفاء ببيانات بات العدوّ يدير ظهره إليها ولا يبالي بها.