ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله، أوصيكم وأوصي بما دعا إليه رسول الله(ص) لأبي ذر الغفاري، حين قال: "أمرني ربّي بحُبِّ المساكينِ والدُّنُوِّ منهم... وأمرني أن أَصِلَ الرَّحِمَ وإن أَدْبَرَتْ، وأمرني أن لا أسألَ أحدًا شيئاً، وأمرني أن أقولَ بالحقِّ وإن كان مُرًّا، وأمرني أن لا أخافَ في اللهِ لومةَ لائمٍ، وأمرني أن أُكْثِرَ من قولِ: لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ".
إننا أحوج ما نكون إلى الاستهداء بهذه الوصايا التي هي وصايا النبي لنا، والأخذ بمضامينها، لنكون معبِّرين حقيقيّين عن انتمائنا لرسول الله، وعن التزامنا بما جاء به قولاً وعملاً، ونكون بذلك أكثر وعياً وأقدر على مواجهة التحدّيات.
والبداية من فلسطين، حيث يستمر العدو الصهيوني في حربه المجنونة التي تستهدف الحجر والبشر والتي لم تعد تقتصر على ما يجري في غزة، بل تعدت ذلك إلى مدن الضفة الغربية ومخيماتها... وهو يستفيد في ذلك من الضوء الأخضر الذي أعطي له من الإدارة الأميركية والدعم غير المحدود الذي يحظى به منها، وإذا كان من لوم أو نقد نسمعه من الرئيس الأمريكي أو أي من أركان إدارته فهو يهدف لكسب أصوات الناخبين الأمريكيين الذين يؤيدون القضية الفلسطينية أو الذين يرفضون الحرب التي تدار على الشعب الفلسطيني، والذي لم يصل إلى حد ممارسة الضغط على الكيان الصهيوني ولن يصل إليه... فيما المفاوضات التي لا يزال هناك من يراهن عليها، ويسعى إلى أن ينفخ الروح فيها وإبداء التفاؤل حولها، رغم المرونة التي أبداها المفاوض الفلسطيني لا تزال أسيرة الشروط التعجيزية التي يصر عليها رئيس وزراء العدو بعدم الانسحاب من محور فيلادلفيا الذي يمثل الشريان الحيوي لغزة وعلى تقطيع أوصال القطاع، وعدم السماح للشعب الفلسطيني بحرية الحركة داخله، من دون أن يأبه في ذلك لضغوط الداخل وللأصوات التي تعلو من الخارج وتدعوه إلى الانصياع لها.
في هذا الوقت يستمر الشعب الفلسطيني على صبره وثباته في الميدان، برغم المجازر والآلام والحصار والتضييق الذي يعاني منه والإذلال الذي يتعرض له، والإمكانات المتواضعة التي يملكها سواء عبر المواجهات التي تحصل يومياً في غزة أو في العمليات البطولية التي شهدناها في الضفة الغربية.
ونحن أمام ذلك، نحيي صمود هذا الشعب والبطولات التي يسطرها، والتي تمنع العدو من تحقيق أهدافه وأن يعلن الانتصار الذي يسعى إليه، وهي استطاعت أن تنقل المعركة إلى داخل كيانه والتي نشهدها في الانقسام الداخلي وفي الاستقالات التي وصلت إلى المؤسسة العسكرية عنده...
وهنا نجدد دعوتنا إلى وحدة الساحة الفلسطينية بكل مكوناتها وفصائلها، إذ لم يعد خافياً على أحد أن هذا الكيان يسعى للإجهاز على الشعب الفلسطيني وإنهاء القضية الفلسطينية واستئصالها من جذورها، وهو إن هادن فريقاً رغبة بتحييده أو لكونه يحتاج إليه والتنسيق معه فسيعود بعدها للإجهاز عليه بعد أن ينهي معركته الأولى، ودائماً نستحضر المثل: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".
كما نجدد دعوتنا للدول العربية والإسلامية ولشعوبها، أن لا يتكرر في الحاضر ما حصل في نكبة 1948 وما قبلها أو ما بعدها، وحتى لا تدان وتتحمل أوزار هذا التخلي أو التقصير عن حماية هذا الشعب، كما ندين نحن الذين تخلوا أو قصروا في ذلك الوقت.
ونصل إلى لبنان الذي يستمر فيه العدو باعتداءاته التي لا يتوانى فيها عن استهداف المدنيين والتهديم المتعمد للبيوت وإتلاف المزروعات والأراضي الحرجية، فيما تستمر المقاومة بالقيام بمسؤوليتها في مواجهة هذا العدو على قاعدة السن بالسن والعين بالعين، فيما يقدم شعبها وتقدم في ذلك التضحيات الجسام.
ومن هنا، نؤكد على اللبنانيين الوقوف صفاً واحداً في مواجهة عدو جربوه وخبروه، أنه لا يريد خيراً للبنان وللبنانيين جميعاً ويرى هذا البلد نقيضاً لكيانه ويعمل لإضعافه.
وإذا كان هناك من خلافات بين اللبنانيين، فليس الآن هو الوقت المناسب لطرحها أو السجال حولها، ولتتوجه كل الجهود لإسناد المقاومة وتعزيزها لمنع العدو من تحقيق أهدافه وفرض شروطه والتي هي لحساب كيانه ومستوطنيه وعلى حساب لبنان واللبنانيين، ويبقى المجال واسعاً للحديث عن كل شيء وإدارة الحوار حوله بعد الانتهاء من هذه المعركة.
ونبقى في هذا البلد، لنعيد التأكيد على ضرورة العمل الجاد لمواجهة الأزمات المعيشية والحياتية التي يعاني منها اللبنانيون، والتي نشهدها اليوم مع بدء عام دراسي جديد بكل أعبائه وتبعاته في ظل ارتفاع الأقساط وحتى الرسوم التي تفرض من المدارس الرسمية والكتب والقرطاسية والنقل، والتي تضاف إلى كل الأعباء التي يعاني منها اللبنانيون على كل الصعد الأخرى، وحتى من الدولة التي تدرس في موازنتها الجديدة فرض أعباء إضافية على اللبنانيين من جيوبهم، ما يدعو القوى السياسية إلى القيام بمسؤوليتها لإيجاد حلول تساهم بإخراج هذا البلد من حالة التردي هذه والتي تهدد مصيره، وهم قادرون على ذلك أن أدوا دورهم وتوحدوا جميعاً لخدمته وخدمة إنسانه، وخرجوا من حساباتهم الخاصة ومصالحهم الفئوية.
وفي الوقت نفسه، ندعو إلى تعزيز التكافل الاجتماعي بين اللبنانيين لمواجهة أعباء هذه المرحلة، لا سيما أولئك الذين يعانون أزمة النزوح من المناطق التي تتعرض لاعتداءات العدو الصهيوني...
أما على الصعيد القضائي، فإننا نأمل أن يكون الإجراء القضائي مع حاكم مصرف لبنان الذي كنا نطالب به، هو بداية الطريق في محاسبة من يتولون مواقع المسؤولية ممن أوصلوا البلد إلى المنحدر الذي وصل إليه، حتى يعرف اللبنانيون أين ذهبت أموالهم وودائعهم.
ومن هنا ندعو القضاء إلى أن يتابع دوره على هذا الصعيد، وأن لا يخضع في ذلك للإملاءات السياسية وللضغوط التي ستمارس عليه لتمنعه من الوصول إلى الحقيقة، حتى يستعيد اللبنانيون ثقتهم بالقضاء، وأنهم في بلد يحكمه القانون وينعم بالمحاسبة التي تجري على الجميع والذي لا يفرّق فيه بين ابن ست وابن جارية..